الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وعليها وعلى الفلك تحملون}..وهذه كتلك آية من آيات الله. ونعمة من نعمه على الإنسان. وسير الفلك على الماء قائم على نواميس وموافقات في تصميم هذا الكون: سمائه وأرضه. يابسه ومائه. وفي طبيعة أشيائه وعناصره. لابد أن توجد حتى يمكن أن يسير الفلك على الماء. سواء سار بالشراع أم بالبخار أم بالذرة، أم بغيرها من القوى التي أودعها الله هذا الكون، ويسر استخدامها للإنسان.ومن ثم تذكر في معرض آيات الله، وفي معرض نعمه على السواء.وكم هنالك من آيات من هذا النوع الحاضر المتناثر في الكون، لا يملك إنسان أن ينكره وهو جاد: {ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون} نعم إن هنالك من ينكر. وهنالك من يجادل في آيات الله. وهنالك من يجادل بالباطل ليدحض به الحق.. ولكن أحدًا من هؤلاء لا يجادل إلا عن التواء، أو غرض، أو كبر، أو مغالطة، لغاية أخرى غير الحقيقة.هنالك من يجادل لأنه طاغية كفرعون وأمثاله، يخشى على ملكه، ويخشى على عرشه، لأن هذا العرش يقوم على أساطير يذهب بها الحق، الذي يثبت بثبوت حقيقة الألوهية الواحدة!وهنالك من يجادل لأنه صاحب مذهب في الحكم كالشيوعية يتحطم إذا ثبتت حقيقة العقيدة السماوية في نفوس البشر. لأنه يريد أن يلصق الناس بالأرض؛ وأن يعلق قلوبهم بمعداتهم وشهوات أجسادهم؛ وأن يفرغها من عبادة الله لتعبد المذهب أو تعبد الزعيم!وهنالك من يجادل لأنه ابتلي بسيطرة رجال الدين كما وقع في تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى ومن ثم فهو يريد الخلاص من هذه السيطرة. فيشتط فيرد على الكنيسة إلهها، الذي تستعبد باسمه الناس!وهنالك أسباب وأسباب.. غير أن منطق الفطرة ينفر من هذا الجدال، ويقر بالحقيقة الثابتة في ضمير الوجود؛ والتي تنطق بها آيات الله بعد كل جدال!وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارًا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}.ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية؛ وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته؛ وبعضها حفظته الروايات على الألسنة، أو حفظته الأوراق والكتب. والقرآن كثيرًا ما يوجه القلوب إليها، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية؛ ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف. والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة، ومساربها ومداخلها، وأبوابها التي تطرق فتفتح، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام!وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض، بعين مفتوحة، وحسن متوفز، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم؛ وما يتعرضون هم لجريانه عليهم: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}.وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة، يصف حال الذين من قبلهم، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة، وتتم العبرة: {كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارًا في الأرض}..توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران. ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب، قص الله على رسوله بعضها، ولم يقصص عليه بعضها. ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره..{فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}..ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة، مما كانوا يعتزون به ويغترون. بل كان هذا هو أصل شقائهم، وسبب هلاكهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} والعلم- بغير إيمان- فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون؛ ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه.وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم. واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}..فلما عاينوا بأس الله، سقط عنهم القناع، وأدركوا مدى الغرور، واعترفوا بما كانوا ينكرون، وأقروا بوحدانية الله، وكفروا بشركائهم من دونه. ولكن الأوان كان قد فات: {فلما رأوا بأسنا قالواآمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}..ذلك أن سنة الله قد جرت على أن لا تقبل التوبة بعد ظهور بأس الله:فهي توبة الفزع لا توبة الإيمان: {سنة الله التي قد خلت في عباده}..وسنة الله ثابتة لا تضطرب ولا تختلف ولا تحيد عن الطريق.{وخسر هنالك الكافرون}.وعلى هذا المشهد العنيف. مشهد بأس الله يأخذ المكذبين. ومشهدهم يستغيثون ويفزعون، ويعلنون كلمة الإذعان والتسليم. تختم السورة. فيتناسق هذا الختام مع جوها وظلها وموضوعها الأصيل.ولقد مررنا في ثنايا السورة بقضايا العقيدة التي تعالجها السور المكية:قضية التوحيد، وقضية البعث، وقضية الوحي.. ولكنها لم تكن هي موضوع السورة البارز. إنما كانت المعركة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، هي البارزة، وكانت ملامح المعركة هي التي ترسم شخصية السورة. وسماتها المميزة لها بين سور القرآن. اهـ.
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة، التي أنعم عليهم بها، بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث، من الإبل والبقر والضأن والمعز، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله: والأنعام والحرث بينه أيضًا في مواضع أخر، كقوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} [النحل: 57] والدفء ما يتدفؤون به في الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها.وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ} [النحل: 80].وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71- 73] وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 21- 22].وقوله تعالى: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 142- 143] إلى قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا} [الأنعام: 144] وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] الآية.وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْواجًا} [الشورى: 11] الآية.وقوله تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} الآية.قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، وبينا مواضعها في سورة الروم، في الكلام على قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [الروم: 9] الآية.{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51]، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]. اهـ.
|